أربعون عاماً على "معركة الكرامة"
أربعون عاماً انقضت على معركة الكرامة الشهيرة التي تُعدّ الولادة العمليّة للثورة الفلسطينيّة، بوصفها المشروع الذي يصادم إسرائيل ويمهّد لـ"تحرير فلسطين". وفي هذا المعنى، فإن النهج الذي اتّبعته الثورة حتّى الاجتياح الإسرائيليّ للبنان في 1982 هو ابن تلك الواقعة التي حُكمت بما قبلها بقدر ما مهّدت لما بعدها، بحيث غدت مراجعتها ومراجعة التجربة التي انبثقت منها، وعبّرت عنها، مهمّة وأساسيّة.
فاستباقاً للانهيار الكامل للمشروع القوميّ العربيّ بقيادته الناصريّة، إثر هزيمة حزيران (يونيو) 1967، ولد المشروع الفلسطينيّ الذي وعد بنقل "تحرير فلسطين" من أيدي الأنظمة إلى أيدي الفلسطينيّين أنفسهم. وجاء الاستباق هذا استجابةً لشعور بالمصادرة عربيّاً لاسيّما ناصريّاً، حين كان جمال عبدالناصر الزعيم غير المنازَع للراديكاليّين العرب، خصوصاً منهم الفلسطينيّين، فضلاً عن الرغبة الملحّة بالردّ على عدم الاعتراف العالميّ بمأساة حاضرةٍ وحارّة تلحّ على طلب الحلّ.
لكنْ ما بين قيام منظّمة "فتح"، أهمّ المنظّمات الفدائيّة، بعمليّتها العسكريّة الأولى أواسط الستينيات، وانتزاعها قيادة "منظمة التحرير الفلسطينيّة" من يد عبدالناصر وأحمد الشقيري، وسط مناخ دوليّ ثورويّ جسّدته حرب فيتنام وتجربة "غيفارا" في أميركا الجنوبية وتعاليم ماو تسي تونغ عن حرب العصابات، تحوّلت "الفلسطينيّة" لتصبح الهويّة الراديكاليّة الأهمّ في منطقة الشرق الأوسط. مع ذلك، بقي ممكناً وسط هذا الاحتفاء بالفلسطينيّة كقضيّة، أن تستمرّ أسوأ المعاملات وأقلّها إنسانيّة للفلسطينيّين في الكثير من البلدان العربيّة. وهو سلوك لم تكن الثورة نفسها بمنأى عنه، هي التي فضّلت استقطاب أبناء المخيّمات كمقاتلين، بدل الضغط لتحسين أوضاعهم كأفراد حيث يقيمون.
وفي هذه الغضون ظهر من يرى أن التعويض توفّره الثورة نفسها كطريق أوحد إلى المستقبل. فـ"أنظمة البورجوازيّة الصغيرة"، حسبما قالت الشلل اليساريّة، قاصدةً أنظمة عبدالناصر و"البعث"، "سقطت تاريخيّاً وإن لم تسقط واقعيّاً بعد"، وانفتح الباب، من ثمّ، لطرف أكثر راديكاليّة. وأسفر اصطدام الجسدين هذين إلى سجالات سياسيّة و"فكريّة"، لكنه شكّل أيضاً التربة الخصبة لاندلاع المواجهات الدمويّة في الأردن، عامي 1970 و1971، في مناخ القبول المصريّ بقرار مجلس الأمن 242 و"مبادرة روجرز"، مما رفضته المقاومة واتّهمت القابلين به، وعلى رأسهم عبدالناصر، بالتفريط.
وفي الأحوال كافّة صارت القضيّة في يد الشعب الفلسطينيّ الذي قيل إن العرب سيتوحّدون حوله وحول نضاله، بعدما كانت هذه القضيّة في أيدي الحكومات العربيّة. لكنْ هنا أيضاً كانت الحماسة أقوى من الحساب العقلانيّ والإدراك الفعليّ للواقع وانقساماته. فالثورة إنما تنطلق، بفعل حقيقة اللجوء المترتّب على "نكبة" 1948، من بلدان محيطة بإسرائيل قبل أن تصل إلى هدفها. وهذا يعني أنها ستصطدم بـ"الإخوة" قبل أن تصطدم بـ"الأعداء"، كما ستجد نفسها وجهاً لوجه مع عصبيّات ووطنيّات ومصالح وتوازنات ليس من السهل القفز فوقها. ثم إن قيادتها كانت مجموعة من المهندسين والمقاولين العاملين في بلدان الخليج ممن يحملون وعياً غائماً يتشكّل من وطنيّة فلسطينيّة بريئة قليلة التسيُّس ومن ولاء إسلاميّ عام. وهو ما كان يعني حكماً حالة متناقضة جدّاً: ففي مقابل الاصطدام الذي لا مهرب منه بعدد لا حصر له من المشاعر الدينيّة أو الإثنيّة أو الوطنيّة في الأردن ولبنان، يجري الالتحاق، على نحو أو آخر، بالأنظمة العربيّة كلّها: فالبلدان الغنيّة كالمملكة العربيّة السعوديّة والكويت توفّر لها المال، فيما البلدان الراديكاليّة والعسكريّة، خصوصاً سوريّا والعراق، وبالتناوب بينهما، تؤمّن لها حماية وجودها في البلدين الأصغر، الأردن ولبنان.
وما لبثت أن تحوّلت هذه العناصر التي تُضعف الطبيعة الثوريّة المفترضة للثورة الفلسطينيّة إلى وزن ثقيل جداً يكبحها ويشلّ قدرتها على الحركة، أو على إنتاج قيم تتجاوز الصراع مع "العدوّ الصهيونيّ" بوصفه هدفاً تامّاً مكتملاً بذاته. وأبعد من هذا أن روح الثورة وثقافتها نهضتا على مخيّمات اللجوء في الشتات بوصفها وحدات تجمع بين القهر والتعاسة وبين الانفصال عن كلّ دورة اقتصاديّة أو مجتمعيّة، وهو الانفصال الذي تواطأ الجميع، أنظمةً ومجتمعاتٍ وثورةً، على إدامته وتخليده. هكذا انتهت الظاهرة هذه ظاهرةً ضديّة أخرى، قويّة عسكريّاً، أقلّه بقياس البلدان العربيّة الصغرى، وهامشيّة على سائر المستويات المجتمعيّة والثقافيّة غير العسكريّة تعريفاً. وقد حاولت بعض فصائل الثورة، خصوصاً "الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين" أن تلتفّ على هذه المآزق عبر سياسات مغامرة كخطف الطائرات وتقنيّات إرهابيّة أخرى شاركتها إيّاها فصائل مسلّحة مختلفة (أيلول الأسود، كارلوس، أبو نضال، الجيش الأحمر الياباني)، كما وجدت سوريّا والعراق المتنازعتان في ما بينهما، من خلال التنظيمات الفلسطينيّة التي صنعتاها، كـ"الصاعقة" و"جبهة التحرير العربيّة"، مدخلهما إلى إرهاب استهدف الفلسطينيّين قبل أن يستهدف غيرهم، وخدم حسابات دمشق وبغداد كما قوّى نفوذهما حيال منظّمة التحرير الفلسطينيّة.
وظهرت أولى نتائج ذاك التطوّر مع حرب 1970 في الأردن بين الفلسطينييّن- الأردنيّين والشرق أردنيّين، ثم وجدت تتويجها في حرب لبنان التي اندلعت عام 1975 بين الفلسطينيّين والمسلمين اللبنانيّين من جهة والمسيحيّين اللبنانيّين من جهة أخرى. وفي عمومها كانت هذه حروباً بين دولة- أمّة مصطبغة بعصبيّة أهليّة (طوائف في لبنان، عشائر في الأردن)، وبين مشروع إيديولوجي غائم ترعاه عصبيّة جعلها حرمانها من دولة- أمّة تصطدم رأسيّاً بها واقعاً وفكرةً. وإذا كان شخص ياسر عرفات خير تمثيل لهذين الوعي والسلوك، فإن تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة التي قادها المشايخ ورجال الدين كالحاج أمين الحسيني والشيخ عزّ الدين القسّام، وصولاً في وقت لاحق إلى مؤسّس "حماس" الشيخ أحمد ياسين، لم يوفّر لها خلفيّة غنيّة للتعامل مع تعقيدات الحداثة الاجتماعيّة والإيديولوجية، ولا قدرة على إحراز إدراك معاصر للسياسات والتوازنات الدوليّة. وكان لهذا جميعاً أن وجد ما يستكمله في عدم تجرُّؤ العرب، ما خلا الاستثناء البورقيبيّ العاقل والشهير أواسط الستينيات، على مصارحة الفلسطينيّين بالحقائق القاهرة، بينما غدا التعاطي مع قضاياهم، في ظلّ أزمات الدول القائمة وتوازناتها وتسابق الزعماء الضعيفي الشرعيّة على مراضاة الجماهير، نهباً للديماغوجيا والشعبويّة المضطرمتين. هكذا انضاف ذلك ليعمل على تكريس غياب "توازن القوى" عن إجماليّ الفكر السياسيّ العربيّ، لاسيّما منه ما يتعلّق بالتعاطي مع الدولة العبريّة.
وعلى العموم تلاحقت الامتحانات القاسية التي تعرّضت لها الثورة الفلسطينيّة من حرب الأردن التي كادت تتسبّب بأزمة إقليميّة ودوليّة طاحنة كما أحدثت شرخاً عميقاً في العلاقات الفلسطينيّة- الشرق أردنيّة، حائلةً دون اندماج اجتماعيّ وطنيّ بدأ مع وحدة الضفّتين، إلى حرب لبنان التي بدأت عمليّاً في 23 ابريل 1969 والتوصّل إلى "اتّفاق القاهرة" الذي حرم الدولة اللبنانيّة حقّها في احتكار العنف وسيادتها على كامل أرضها، انتهاء بالاجتياح الإسرائيلي لبيروت في 1982 الذي أخرج المقاومة منها ودفع بها إلى تونس البعيدة.
هنا، كانت المنطقة تضجّ ببديلين متكاملين كلّ منهما يظهر في مظهر المزاود راديكاليّاً على الثورة الفلسطينيّة: إيران وسوريا. فالأولى، وفي مخاض حرب الخليج الأولى إثر الهجوم العراقيّ عليها، اتّبعت استراتيجيّة "تصدير الثورة" الخمينيّة ومناطحة المصالح الغربيّة بما في ذلك احتكار الحرص اللفظيّ على الصراع مع إسرائيل، حسب ما يدلّ شعار "يا قدس إنّا عائدون" وغير ذلك من شعارات ودعوات فولكلوريّة. أما الثانية فاعتمدت نهجاً منظّماً ومنهجيّاً في مكافحة ما أسمته "العرفاتيّة"، قاصدةً به رغبة الفلسطينيّين في المضيّ بأخذ قضيّتهم بأيديهم. وفي السياق هذا شهد عقد الثمانينيات حروباً ضارية ضدّ "العرفاتيّة" في طرابلس والبقاع بلبنان كما في المخيّمات الفلسطينيّة جنوب بيروت، كما صير، بدعم دمشق وتحريضها، إلى شقّ القوّات العسكريّة الفلسطينيّة بما فيها قوّات منظّمة "فتح". وبدورها، اتّجهت الثورة إلى نفي الاستراتيجيّة التي ابتدأت بمعركة الكرامة ساعيةً إلى دولة أريد لها أن تنشأ فوق أراضي الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة التي احتُلّت عام 1967. على النحو هذا، انتهى في 1982 النهج الكارثيّ الذي افتتحته معركة الكرامة وابتدأ نهج جديد أكثر عقلانيّة وسياسيّة لا تتّسع له هذه العجالة.